الهندسة الشعرية والحنين الإنساني في نص "أتيتك من مدن فقدت الأسماء" لآمال صالح - الناشر المصري

الهندسة الشعرية والحنين الإنساني في نص "أتيتك من مدن فقدت الأسماء" لآمال صالح - الناشر المصري

بقلم: [ربا رباعي]


دراسة بلاغية أسلوبية تعتمد على هندسة اللغة والإيقاع الداخلي وجمالية الدلالة




مدخل عام


في نصها "أتيتك من مدن فقدت الأسماء"، تكتب آمال صالح بلغة تنوس بين الشعر والتأمل الفلسفي، وتمارس فعل الكتابة كترميم للذات والهوية والمكان. النص يستند إلى هندسة لغوية داخلية مشبعة بالأسى والحنين، تُبنى عبرها شبكة من الصور والرموز والدلالات التي تنفتح على القارئ بين لحظة التلقي وأفق التأويل. هذه الدراسة تحاول تحليل النص من خلال محاور البلاغة الأسلوبية، الإيقاع الداخلي، الحرس الصوتي، جمالية الصورة، والتناص، لتكشف عن البنية الجمالية والمعرفية الكامنة فيه.




أولاً: هندسة اللغة والبنية الأسلوبية


تتسم الجمل في النص بالقِصر والتقطيع التأملي، وهو ما يخلق إيقاعًا متواترًا مشحونًا بالقلق والدهشة. مثال ذلك قولها:


> "نغمض الأعين... نريد أن نصل إلى النهاية..."


هذا النوع من البناء لا يُسهم فقط في تكثيف الحالة الشعورية، بل يُنتج شعورًا داخليًا بالانتظار والتيه، ويعكس تمزق الذات في علاقتها بالمدينة والآخر. كما توظف الكاتبة أدوات بلاغية متقنة، أبرزها:


الاستفهام البلاغي: "لماذا الحروف موجعة؟"، "من هو المثقف؟"، وهي أسئلة وجودية لا تطلب جواباً بل تُحرّض على التأمل.


الرمز: كـ"المدن" و"الحروف" و"الطفولة"، وكلها رموز تشكّل كينونات ضائعة في مواجهة اغتراب الذات واللغة.


المفارقة: "كل لا شبه له"، جملة تُحدث انزياحاً دلالياً وتهدم التوقع، ما يُفضي إلى تعدد التأويل.


ثانيًا: الإيقاع الداخلي وجرس الصوت


يعتمد النص على إيقاع داخلي لا يقوم على الوزن الخليلي، بل على التكرار والتنغيم:


> "نريد أن نصل... نريد أن نفك..."

"يعذبنا السؤال... يعذبنا الخوف..."


يتولد من هذا التكرار إيقاع دائري يوازي ضياع الذات وتكرار المحاولات الفاشلة للفهم والانتماء. كذلك، تستخدم الكاتبة الحرس الصوتي بذكاء، من خلال التآلف بين أصوات رخوة (كالميم والفاء والباء) وبين مفردات تنتمي إلى الحنين والألم، مما ينتج موسيقى داخلية ناعمة لكنها مشحونة.


ثالثًا: جمالية الدلالة بين التلقي والتأويل


يبني النص دلالاته من خلال مفارقة بين ظاهر متألم وباطن فلسفي، يدفع القارئ إلى المشاركة في إنتاج المعنى:


المدن التي فقدت أسماؤها لا تشير فقط إلى أماكن مجهولة، بل إلى انقطاع الهوية وضياع الجذور.


المثقف يظهر كعنصر فاعل، مطالب بكسر الحواجز واستعادة المعنى:


> "لا بد للمثقف أن يكسر كل الحواجز... أن تكن حروفه شموسا صغيرة..."


في هذا السياق، تتحول اللغة من أداة وصف إلى أداة مقاومة وتغيير، واللغة هنا ليست حيادية، بل فاعلة ومؤثرة.



رابعًا: الصورة الشعرية وبناء المجاز


تقوم الصور في النص بوظيفة تعبيرية واستعارية مركبة:


"أتيتك من مدن فقدت الأسماء": مجاز يدل على الضياع العام، ويُحيل إلى شعور جماعي بفقدان المعنى والانتماء.


"كلمات تعزف لحناً فيروزياً يشبه طفولتك": صورة تجمع البصر والسمع والذاكرة في تشكيل وجداني حميم.


"زحمة الأشباح... كل لا شبه له": تجسيد لحالة وجودية مفككة، تنقل القارئ من الصورة الحسية إلى الرمزية الفلسفية.



خامسًا: التناص وتفاعل النصوص


يتجلى في النص نوع من التناص الثقافي والوجداني:


تناص فيروزي: عبر استخدام "لحن فيروزي"، تستدعي الكاتبة دلالات الطفولة والصفاء والوطنية المحبّة.


تناص فلسفي/قرآني ضمني: في قولها: "أن يتذكر... أن يتفكر..."، تُستحضر قيم التفكير والتأمل كما وردت في الخطاب الديني والفلسفي، مما يضفي على النص بعدًا معرفيًا وأخلاقيًا.


سادسًا: جمالية التلقي والتأويل المفتوح


تُترك الكثير من إشارات النص مفتوحة، مما يدعو القارئ للبحث عن هويته الخاصة في كل سطر، في كل سؤال، وفي كل شارع يمر به دون أن يرى ذاته أو الآخر. النص لا يُسلم معناه بسهولة، بل يُمارس وظيفة تحريضية تأويلية:


هل المدن هي الوطن أم الذاكرة؟


هل المثقف غائب أم مُغيّب؟


هل اللغة قادرة بعد على مقاومة الخراب؟


كلها أسئلة تُبقي النص حيًا، ديناميكيًا، وفاعلًا.



خاتمة تحليلية


نص "أتيتك من مدن فقدت الأسماء" ليس فقط مشهدًا شعريًا للتيه والحنين، بل هو فعل لغوي مقاوم، يبحث عن الذات في زمن الأشباح، وينادي على المثقف ليعيد للغة معناها، وللمدن إنسانيتها.


بلاغته تتجلى في قدرته على تشكيل إحساس مشترك بالخسارة والرغبة في الاستعادة. إيقاعه ينبع من التكرار والقطيعة والتهدج، وصوره تنحت وجوهًا للوجدان المعاصر، بينما تبقى لغته مغمورة بشموس صغيرة تحاول أن تُنير العتمة... لا بالكلمات فقط، بل بالمعنى الذي تولّده الكلمة حين تُكتب بصدق ووعي.



ربا رباعي 

الاردن 

تعليقات