بقلم - ربا رباعي - الاردن
تمهيد
يُعدّ جميل بن معمر، المعروف بـ"جميل بثينة"، من أعلام الغزل العذري في العصر الأموي، وقد تميزت تجربته الشعرية بخصوصيتها العاطفية والروحية، فكانت بثينة هي المحور الجمالي والوجداني لشعره. في هذا المقال نقرأ مكونات قصيدة الغزل والرؤيا عند جميل، وكيف وظف الأدوات البلاغية والرمزية – كالكناية والاستعارة والمجاز والانزياح – في التعبير عن حبه العفيف، مشيرين إلى حضور الأنثى والوطن، ومسألة التضاد، ومفهوم "الرؤيا" بوصفه بعدًا داخليًا يتجاوز مجرد التعبير السطحي عن الهوى.
أولًا: جميل بثينة والغزل العذري
ينتمي جميل إلى قبيلة عذرة، وهي أشهر القبائل التي عُرف شعراؤها بالغزل العذري الطاهر، الذي يتميّز بالحب الروحي الخالص، بعيدًا عن الإباحية الجسدية. وقد ارتبط اسمه ببثينة، حبيبته وابنة عمّه، التي شكّلت محور تجربته الشعرية والوجدانية، حتى غدا اسمه مقترنًا بها في جميع كتب الأدب.
يقول جميل:
> "وأنتِ التي اخترتها في الهوى
وما زلتُ أبكي فيكِ حتى الصلاةِ"
هنا تتجلى عذريّة الحب في طهارته وشموله لكل تفاصيل الحياة، حتى لحظات العبادة، مما يعكس اختلاط المقدس بالوجداني، وتحوّل الحب إلى رؤيا روحانية.
ثانيًا: الرؤيا في شعر جميل
إذا كان الغزل العذري يمثل حالة وجدانية، فإن "الرؤيا" عند جميل تتجاوز ذلك، فالشاعر لا يعبّر عن الحب بوصفه تجربة حسّية، بل بوصفه فعلًا وجوديًا متجاوزًا. الحبيبة تتحول إلى رمز للكينونة، ومفتاح لفهم الذات والكون، والحب يصبح رحلة صوفية داخل النفس.
> "يقولون: جاهد يا جميل بغزوةٍ
وأيّ جهادٍ غيرهنّ أريدُ؟"
هنا انزياح دلالي عميق: إذ يستبدل جميل "الجهاد في سبيل الله" بالجهاد في سبيل الحب، مما يفتح دلالات الرؤيا الصوفية، ويجعل من الحب فعلًا مقدسًا لا يقل قداسة عن الجهاد. هذه رؤية لا تقدم الحب كتسلية بل كمصير داخلي.
ثالثًا: حضور الأنثى والوطن
الأنثى – بثينة – ليست مجرد معشوقة، بل تصبح كيانًا مقدسًا متجاوزًا للجسد، بينما يتقاطع حبها مع حب المكان/الوطن، الذي يذوب فيهما معًا. يقول:
> "أمرُّ على الديارِ ديارِ بثنَى
أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
في هذا البيت تظهر كناية بليغة: "تقبيل الجدار" ليس حبًا في الحجر، بل فيما يحمله من ذكريات بثينة، وكأن الأنثى والوطن امتزجا في وجدان الشاعر. إنه حب الوجود الذي تتجسد فيه الحبيبة وطنًا معنويًا.
رابعًا: التضاد والاستعارة والمجاز
تُعد الثنائيات الضدية أحد أبرز سمات شعر جميل: اللقاء/الفراق، البكاء/الفرح، الطهر/العجز، الجهاد/العشق. كما يوظّف الاستعارة والمجاز في تعبيراته، فيقول:
> "حلَّت بُثينةُ من قلبي بمنزلةٍ
بينَ الجوانحِ لم ينزل بها أحدُ"
هذا البيت يزخر بمجازات واستعارات: حيث يجعل القلب مكانًا، وبثينة ساكنة فيه، والجوانح كأنها منزل حبها. الانزياح هنا يتمثل في تحويل مفاهيم مكانية مادية إلى كيانات شعورية داخلية.
خامسًا: الكناية وبلاغة الإيماء
الكناية عند جميل لا تردف المعنى، بل تخلقه من خلال الإيماء لا الإخبار. مثال:
> "الهوى ينساب من مقلتيّ"
كناية عن شدة البكاء، دون أن يذكر "الدمع" صراحة.
> "حتى الصلاة"
كناية عن دوام التعلّق بالمحبوبة حتى في أشرف الأوقات، وكأن الحب لا يخرج من قلبه حتى في الخضوع لله، مما يجعل من بثينة مرآة لتجلياته النفسية والروحية.
مقارنات نقدية
مقارنة بشعراء عذريين آخرين كـ"قيس بن الملوح" و"كُثير عزة"، نجد أن جميل أكثر هدوءًا في نبرة العاطفة، وأقرب للرؤيا الداخلية، بينما قيس ينحو نحو الجنون والانفجار العاطفي، وكثير أكثر تصالحًا مع الجسد.
كما أن جميل أكثر اعتمادًا على الكناية والتضمين، بينما كان قيس يستخدم التصريح والنداء والبكاء المباشر.
الخاتمة
إن تجربة جميل بثينة الشعرية ليست مجرد غزلٍ، بل رؤيا متكاملة، حيث يتعانق الغزل مع الرمز، وتتقاطع المرأة مع الوطن، وتنبثق الصور الشعرية عبر كنايات وانزياحات واستعارات دقيقة. بهذا، تحوّل الحب عند جميل إلى "لغة وجود"، تتجاوز المحسوس إلى المطلق، وتفتح بابًا لفهم الغزل لا كفنّ تقليدي بل كمساحة روحية وجودية.
المراجع والمصادر
ديوان جميل بثينة، تحقيق: إحسان عباس.
"الغزل العذري – قراءة تحليلية"، عبد العزيز حمودة.
"الرمز والرؤيا في الشعر العربي"، أدونيس.
موقع mawdoo3.com
مدونة najja7ni.blogspot.com
"بلاغة الكناية في الشعر العربي"، مجلة الآداب واللغة.