الجزء الثاني من تحليل قصيدة يقطين - الناشر المصري

الجزء الثاني من تحليل قصيدة يقطين - الناشر المصري

بقلم الأديبة دكتورة رُبا رباعي. الأردن



قصيدة "يقطين" للشاعر أكرم يوسف أبو مغيث: نموذج للتماسك الدلالي وعمق المعنى النصي


تُعد قصيدة "يقطين" نموذجًا بارزًا في الشعر العربي المعاصر، حيث تتجلى فيها مظاهر التماسك الدلالي وسمات المعنى النصي بشكل لافت. فهي قصيدة تتكامل فيها الصورة البلاغية مع البنية الرمزية لتعكس حالة شعورية وفكرية متشابكة، تُحاكي الواقع وتحلّق في عوالم التأمل والتأويل.



أولًا: التماسك الدلالي في القصيدة


يُظهر الشاعر تماسكًا دلاليًا قويًا من خلال استخدام عدد من التقنيات اللغوية والأسلوبية التي تُسهم في ربط أجزاء النص وتوحيد معناه:


الإحالة الدلالية: يُلاحظ توظيف الشاعر للإحالات النصية التي تربط بين الجُمل والمقاطع، مما يعزز من ترابط النص ويوجّه المتلقي لفهم البنية الكلية.

التكرار: يُستخدم التكرار كأداة بلاغية لتأكيد المعنى وتعميقه، خصوصًا في تكرار كلمة "يقطين" التي تُحمل دلالات رمزية تتكرر بأبعاد مختلفة داخل النص.

الحقول الدلالية: تتوزع القصيدة على عدد من الحقول الدلالية مثل التيه، الضياع، الجذور، الأرض، الأمة، وكلها تُسهم في بناء المعنى العام للقصيدة وتوحيد سياقاتها.


ثانيًا: سمات المعنى النصي


تتميز القصيدة بعدة سمات في بنائها المعنوي، من أبرزها:


الوحدة الموضوعية: حيث تتمحور حول موضوع مركزي هو التيه والانفصال عن الجذور، مما يُعزز من تماسكها الدلالي.


الانسجام الداخلي: تُظهر تداخلًا منسجمًا بين المفردات والصور، مما يُضفي وحدة بنيوية على النص.


الرمزية: تتسم الرموز في القصيدة بعمقٍ دلاليّ، وأبرزها رمز "اليقطين" الذي يستحضر في الذاكرة العربية والدينية دلالات الحماية والغطاء، بينما يُعاد تأويله هنا ليمثل التيه والانفصال عن الأصل.


ثالثًا: التوظيف البلاغي والرمزي


1. التكرار والانزياح البلاغي


التكرار في القصيدة لا يأتي اعتباطًا، بل يُستخدم بوصفه أداة بلاغية تعمّق المعنى، وتُبرز المركزية الرمزية لكلمة "يقطين".


أما الانزياح البلاغي، فيتجلى في خروج العبارات عن معناها الظاهري إلى معانٍ مجازية عميقة، مثل قول الشاعر:


> "تاهت الناس عن السبل المتيقنَ

كما تاه اليقطين عن رواسيه المجبلَ"


فـ"تَيه اليقطين" استعارة تُشير إلى حالة الضياع المجتمعي أو الحضاري، وصورة فقدان الاتجاه أو الثبات في عالم مضطرب.


2. الاستعارة وبلاغة الصورة


تزخر القصيدة بالاستعارات الموحية، التي تُضفي على النص جمالًا وعمقًا تعبيريًا. فعلى سبيل المثال، تصوير الأمة بأنها:


> "أمة قد أصابها المر وأغلبها حنظلا"


يحمل دلالة واضحة على مرارة الواقع وتدهور القيم، في حين أن تصوير النزاع المجتمعي كـ:


> "شبحًا تنكرًا"


يُعزز من فنية الصورة ويُجسد القبح الرمزي للنزاعات على المال والسلطة.


رابعًا: السياق التاريخي والاجتماعي للقصيدة


لفهم دلالات القصيدة بعمق، لا بد من النظر إلى السياق الذي كُتبت فيه. تعكس القصيدة حالة اجتماعية مأزومة، وتطرح تساؤلات كبرى عن الهوية والضياع والانتماء. فـ"اليقطين" ليس مجرد نبات أو مفردة لغوية، بل رمز لمفهوم مركّب يمكن أن يُقرأ على مستويات عدة: ثقافية، دينية، سياسية، ونفسية.



خامسًا: الإيقاع الشعري ودوره التعبيري


البنية الإيقاعية المنتظمة والموزونة في القصيدة تساهم في تكثيف المعنى وتعزيز الأثر النفسي لدى المتلقي. يُضيف الإيقاع إحساسًا بالجدية والحزن، ويمنح الصور الشعرية بعدًا صوتيًا يُقوي من تأثيرها البلاغي.



سادسًا: البُعد الفلسفي والوجداني


لا تكتفي القصيدة بنقل الواقع، بل تُعيد تأويله بلغة رمزية تحمل أبعادًا وجدانية وفلسفية عميقة. يُعبّر الشاعر عن الاغتراب، الضياع، الحنين إلى الأصل، والقلق من المستقبل، وهي مواضي تُلامس جوهر التجربة الإنسانية.


خاتمة


إن قصيدة "يقطين" تُعد نموذجًا متميزًا في الشعر العربي المعاصر، حيث تتجلّى فيها مظاهر التماسك الدلالي وسمات المعنى النصي بشكل لافت. من خلال توظيف التكرار، الإحالة، الحقول الدلالية، والصور البلاغية، ينجح الشاعر أكرم يوسف أبو مغيث في بناء نص متكامل، غني بالرموز، نابض بالإحساس، وقادر على إثارة الأسئلة والتأمل.


لقد استطاع الشاعر أن يُوظف رمز "اليقطين" توظيفًا بلاغيًا عميقًا، منح القصيدة طبقات دلالية متعددة، وأكسبها طابعًا تأويليًا يُغري القارئ بالعودة إليها مرارًا لاكتشاف ما بين السطور.

تعليقات