بقلم - ربا رباعي - الاردن
✦ المقدمة:
في أدبنا العربي، لم يكن الغرام يومًا موضوعًا سطحيًا أو ترفًا لغويًا، بل ظلّ دائمًا تجربة إنسانية بالغة العمق، تحمل أبعادًا نفسية وروحية وجمالية، تتجاوز حدود اللحظة العابرة. وفي زمنين مختلفين، وبأسلوبين متباينين، عبّر كلّ من ابن حزم الأندلسي ويحيى العلاق عن الحب، كلّ بطريقته، لكنهما التقيا في تصوير الغرام بوصفه تجربة وجودية تلامس جوهر الإنسان، لا مجرد علاقة عابرة بين عاشق ومعشوق.
يتعامل ابن حزم في "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف" مع الحب بوصفه حالة فطرية سامية، بينما يتعامل العلاق مع الغرام كعتبة دائمة، لا يدخلها العاشق تمامًا، ولا يغادرها، بل يظل واقفًا على تخومها في حالة من التردد، التأمل، أو الألم الصامت. في هذا السياق، تصبح "العتبة" رمزًا مشتركًا بين فقيه أندلسي وشاعر معاصر، كلاهما يرى في الغرام تجربة تمزج بين التوق والغياب، الحضور والافتقاد.
✦ أولًا: الحب عند ابن حزم – من الفطرة إلى العفاف
ابن حزم الأندلسي لم يتحدث عن الحب بوصفه ترفًا عاطفيًا أو انفعالًا غريزيًا، بل نظر إليه كحالة فطرية مغروسة في النفس. يقول في مقدمة "طوق الحمامة":
> "الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقَّت معانيه لجلالها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة."
الحب في نظره تجربة أخلاقية وتربوية، لا يُحاسب الإنسان على وقوعه فيها، بل على كيفية تعامله معها. وهذا ما يظهر جليًا في مدحه لـ"الحب الخفي"، حيث يقول:
> "وأفضل الحب ما خفي، وأفضل ما خفي ما لا تظهر له علامة."
فهو يربط الحب بالعفاف، ويجعل منه امتحانًا للنفس، لا مجالًا للهوى. كذلك، يربط الحب بالروح لا بالجسد، إذ يرى أن سبب الحب هو التماثل الروحي، لا مجرد الإعجاب الظاهري:
> "علّة الحب عندي صلة نفسانية، ومناسبة روحية."
يُبرز ابن حزم أيضًا كيف أن الحب لا يُمحى بسهولة، بل قد يبقى حتى بعد رحيل المحبوب أو موته، إذ يقول:
> "قد رأيتُ من يُحب بعد موت المحبوب، ومن يواصل البكاء بعد فراقه بسنين
✦ ثانيًا: يحيى العلاق – شاعر يقف على عتبة العشق
في المقابل، يتعامل يحيى العلاق مع الحب ليس كحالة مكتملة، بل كتجربة مشروخة، ناقصة، يشوبها التردد والانتظار والحنين. عنوان "على عتبات الغرام" يليق جدًا بوصف هذه التجربة، حيث يقف الشاعر دائمًا على "العتبة"، لا يدخل الجنة ولا يخرج من الجحيم، بل يظل معلقًا في مساحة رمادية.
> يقول في إحدى قصائده:
"أريدكِ كاملةً...
كما تفعلُ الغيمة حين تمرّ،
لا تمطر،
ولا تُجفف التراب."
هنا، الحب ليس عطاءً مكتملًا، بل حضور ناقص، شوق لا يكتمل، رغبة لا تُروى. وهذا ما يجعل التجربة الغزلية عند العلاق تجربة ذات طابع وجودي، لا حسي فقط.
المرأة في شعره ليست جسدًا فقط، بل كائن رمزي، غائب، متخيل، يتجاوز الحضور الواقعي إلى مرتبة الرمز أو الطيف. كما أن اللغة التي يستخدمها الشاعر في التعبير عن الغرام، مليئة بالحيرة والتردد، وكأن كل قصيدة عنده هي نفسها عتبة لغوية، تقف بين القول والصمت، بين الإفصاح والكتمان.
✦ ثالثًا: العتبة كرمز مشترك – من الطوق إلى الغيم
رغم تباعد الزمن بين ابن حزم والعلاق، إلا أن كليهما يتعامل مع الحب من موقع التوق لا الامتلاك. ففي حين يرى ابن حزم أن الحب الحقّ هو ما لا يُعلن، فإن العلاق يُجسّد الحب كلحظة مؤجلة، معلّقة على حافة التحقق.
كل منهما يرى أن الحُب الحقيقي لا يُدرك كاملًا، بل يُلامس – كالغيم أو الطيف – ويترك أثره دون أن يتحقق تمامًا. ومن هنا، تلتقي رؤية ابن حزم التي تربط الحب بالصبر والعفاف، برؤية العلاق التي تجعل من الحب تجربة عبور لا استقرار، ولحظة سؤال لا جواب.
> ابن حزم: "الحب لا يوصف، ولا يُحاط به علم."
العلاق: "الحب ظلٌّ يتبعك... لا يُمسَك، لكنه يُشبهك." (من أحد نصوصه)
العتبة في فلسفة الحب هنا تتحوّل إلى رمز نفسي وروحي: إن العاشق، سواء كان فقيهًا أو شاعرًا، لا يسكن المعشوق تمامًا، بل يبقى مشدودًا إلى طيفه، يتأمل أثره، ويسكن الانتظار.
✦ الخاتمة:
إنّ الغرام، في صورته العميقة، ليس لحظة اكتمال بل لحظة توتر دائم. وهذا ما يجمع بين ابن حزم المفكر والفقيه، ويحيى العلاق الشاعر الحديث؛ فكلاهما يرى الحب عتبة، لا دارًا، ورمزًا، لا واقعًا ملموسًا.
بين طهر الحب عند ابن حزم، وتشظيه عند العلاق، تتشكّل خريطة وجدانية للعاشق العربي، الذي ما زال يبحث عن الحبيبة في الزمن، في اللغة، وفي الغياب. وكأن الحب، في نهاية المطاف، هو ما لا نبلغ تمامه، بل نقف أمامه في خشوع، على العتبة.
✦ المراجع:
1. ابن حزم الأندلسي – طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف
2. يحيى العلاق – نصوص شعرية مختارة من دواوينه
3. القشيري – الرسالة القشيرية في التصوف
4. ديوان قيس بن الملوح
5. دراسات في الحب العربي: عبد الفتاح كيليطو، عبد العزيز المقالح
6. مصادر الحديث النبوي الشريف